الحضارة الأمازيغية والحلقات المفقودة عندما يتأمل الباحث في تاريخ الإنسان الأمازيغي الذي يمتد إلى أكثر من ثلاثة وثلاثين قرنا، يصطدم لا محالة بالتناقض الصارخ القائم مابين عظمة الأحداث والانجازات التي ميزت حقبا مختلفة من حياة المماليك والدول والحضارة والثقافة الأمازيغية، وما بين آثار هذا المجد وعلامات تبلوره في إطار ثقافي وهوياتي وحضاري قائم الذات، ومتمكن من الاستمرار والبروز على امتداد الزمن وفي المكان.  فباستثناء التعابير الفنية الشعبية، واللغة والتراث الشفاهي، التي استطاعت أن تصمد وتحافظ على استمراريتها عبر بنية المتخيل والذاكرة والمقاومة الأنثربولوجية، فإن آثار الحضارة الأمازيغية وعبقريتها الثقافية والفكرية لم تجد منفذها سواء العيني أو المدون إلى الأزمنة والفترات الموالية من تاريخهم، خاصة في ظل حالات المد والجزر، والبروز والخفوت، والمقاومة والخضوع التي ميزت علاقاتهم بالآخر مند الحملات والاستعمارات الأولى التي توافدت على بلاد شمال افريقيا، أرض انتسابهم ومجال وجودهم التاريخي والحيوي. كما أن العديد من الحلقات تظل مفقودة في رصد مراحل وعلامات هامة من تاريخ الأمازيغ، وفي رصد إنتاجاتهم في مختلف مجالات الحضارة والثقافة والحياة الاجتماعية. فباستثناء النزر القليل مما وصلنا من تاريخهم القديم، خاصة فيما يتعلق بآثار مجدهم الحضاري وإرثهم المادي والرمزي الذي تؤكده بعض الوثائق التاريخية المتوفرة، فإن العديد إن لم نقل جل منجزاتهم المادية بما في ذلك بنيانهم ومدنهم وآثارهم المعمارية والفنية، وإنتاجاتهم الثقافية والرمزية خاصة في مجال الأدب والفكر والفنون والتي أنتجوها في أوج تاريخهم السياسي والحضاري، كانت عرضة إما للتلف والتخريب أو للطمس والتحريف، بالشكل الذي يشكك في عبقرية الأمازيغ وعمق كيانهم الحضاري.  من الواضح بأن الوجود الحضاري الأمازيغي لم يتبلور أساسا في إطار قومي خاص به، حيث أن الأمازيغ لم يعتمدوا بشكل حاسم على لغتهم الأمازيغية وحرف كتابتها العريق، وعلى الوعي بمقومات هويتهم وتميز كيانهم الثقافي، مما حال دون تحقق حالة الانفصال والاتصال في صيرورة وجودهم التاريخي. وهذا لا يعني عدم تحقق هذا الوجود الحضاري، حيث أن العديد من الأحداث والشواهد والآثار المتبقية تؤكد أن الأمازيغ ساهموا بشكل حاسم في بناء وازدهار أهم الحضارات الإنسانية التي عرفها حوض البحر الأبيض المتوسط، لكن هذا المنجز لم يتم في إطار قومي خاص بهم، حيث كان الأمازيغ على امتداد تاريخهم في وضع تفاعل وتبادل مع مختلف الثقافات والحضارات التي احتكوا بها أو تصدوا لمطامعها التوسعية، وذلك بأشكال تحيل أحيانا على استعداد "ساذج" للتلاقح وللتماثل إلى درجة "التحول"، مما جعل العديد من إنجازاتهم وإنتاجاتهم تذوب في دوائر فعل الأقوام الأخرى، وتنتسب إلى إطارها اللغوي والثقافي والحضاري. فمن أسباب انحصار الإنتاج والأثر الأمازيغي عبر العصور هو كون الأمازيغ لم يكتبوا بلغتهم، ولم يراكموا على المستوى المادي والرمزي داخل إطار وعي قومي مستقل عن جوارهم الثقافي والحضاري. فالعديد من المفكرين والكتاب الأمازيغ أنتجوا باللغة اللاتينية والإغريقية، وداخل منظومتها الثقافية، كما أن العديد من إنجازاتهم المادية، خاصة تشييد المدن والأعمال الفنية، ارتبطت أكثر بالحضارة الرومانية والفرعونية وخصائصها المدنية والجمالية، مما غطى على عبقرية الإنسان الأمازيغي ومساهمته البارزة في تاريخ شمال إفريقيا منذ آلاف السنين.  فمنذ فجر التاريخ المكتوب دخل الأمازيغ في شد وجذب مع جيرانهم الفراعنة في الشرق، ونجحوا في دخول بلاد مصر وأسسوا بها أسرا تناوبت على حكم البلاد قرونا طويلة، غير أن هذه السيادة العسكرية والسياسية لم تترجم حضاريا، حيث اندمجوا في السلالات الفرعونية وذابوا في إطارها القومي والحضاري بأبعاده الأسطورية والروحية والمادية. ولم يسجل التاريخ أن حاول الأمازيغ إخضاع الأخر وتذويب الثقافات والحضارات الأخرى داخل نظامهم وإطارهم الحضاري والقومي، بقدر ما وضعوا على الدوام عبقريتهم في خدمة الثقافات والحضارات الأخرى حتى في الحالات التي سادوا فيها سياسيا....
0 تعليقات
أكتب لتعليق