أودّ أن أؤكّد منذ البداية على نقطتين أساسيتين في هذا المقال: النقطة الأولى تتمثَّل في أنني سأكتفي هنا بإطلاق اسم “مدرسة فرانكفورت” على ذلك التيّار الفكريّ الألمانيّ الذي اتّخذ عبر تاريخه أسماء متعدّدة مثل معهد “الدراسات الماركسية” أو “النظرية النقدية” أو “مدرسة فرانكفورت”. النقطة الثانية هي أنّه ليس في نيتي أبداً الحديث، في هذا المقام، عن تاريخ تلك المدرسة ممثّلةً بأجيالها الثلاثة، بل إنّ كلّ ما هناك هو أنني سأعمل، فيما تسمح به حدود مقالٍ واحد، على رصد تطوّر فكر الجيل الأوّل من تلك المدرسة ممثلاً بهوركهايمر وأدورنو من الماركسيّة إلى ما بعد الحداثة.
ولعلّ لهذا الانتقال عدَّة عوامل، بعضها موضوعيّ مثل الحرب العالمية الثانية وما نتج عنها بخاصة في بلدٍ مثل ألمانيا، وبعضها الآخر ذاتيّ يتمثّل ربما في نزعة الاستطيقا الأصيلة لدى معظم ممثلي الجيل الأول لتلك المدرسة. فيما يخصّ النقطة الأولى؛ فمن المؤكد أن المشهد الثقافي الألماني عشيّة الحرب العالمية الثانية كان مُضطرباً، قاتماً ونقدياً جدّاً، فقد انتهت تلك الحرب مخلَّفّة وراءها ألمانيا مُدمَّرة. كانت الجراح لا تزال غضّة، والكارثة قد أحاقت بالروح الألمانيّة التي شعرت بأنها قد تركت إلى المجهول بعد أن أضاعت كل شيء: هويتها ومكانتها بل وربما تراثها الفلسفي العريق. يتجلّى هذا الإحساس بالضياع في موقف الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز الذي أعلن حينها: “لقد فقدنا كل شيء تقريباً: وضعنا القومي وقوتنا الاقتصاديّة وسلامتنا الجسدية، والأسوأ من هذا كله المعايير المُلزِمة والتي تُقرِّب الكرامة الأخلاقية من المشاعر لتكوين شعب. […]، لقد اختفت حكوماتنا بدون أية كلمة، لم تعد الأمة الألمانية موجودة، وصار علينا أن نلتمس الإذن من أجل أدنى تصرُّف.”
نقرأ في كلام ياسبرز هنا صوت الفلسفة التي تبكي عجزها عن منع مثل تلك الكارثة فهي، كما شبهها هيغل في مؤلفه مبادئ فلسفة الحقّ مثل “بومة منيرفا [التي] لا تفرد جناحيها إلا بعد أن يُرخي الليل سدوله2.”.
تقوم فرضيّتي هنا على أنّ الفلسفة المسكونة بأزمة سياسيّة تجد نفسها أمام خيارين اثنين: فإما أن تواجه واقعها ذاك دون القفز فوقه، وفي مثل هذه الحالة تُخلي الأسئلة النظرية مكانها شيئاً فشيئاً أمام أسئلة ذات طابع عمليّ حيث تجد الفلسفة نفسها منخرطةً في مهمة تغيير العالَم على الطريقة الماركسية، بدلاً من الاكتفاء بتأمله على طريقة هيغل، وإما أن تتمرَّد على واقعها السوداويّ الذي تجد نفسها فيه، وذلك بلجوئها إلى النقد الجذريّ وإلى اليوتوبيا المُتجسِّدة في قوّة السَّلب الكامنة في الفنّ الذي يُقدِّم الخلاص أو البديل عن واقعٍ قاتم وسوداويّ. سأحاول في مقالي هذا أن أوضِّح كيف أن الجيل الأوّل لمدرسة فرانكفورت ممثلاً بهوركهايمر وأدورنو قد بدأ بالحلّ الأول، لكنه انتهى إلى الثاني. من هنا سيتركز هذا المبحث على نقطتين أساسيتين: تتمثَّل الأولى في تتبع تطور تفكير هذا الجيل الأول من المادية إلى شيءٍ من المثالية، وتتجلى الثانية في تشكيكه النقدي بمآلات التنوير.
{{ * الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت من الماركسية إلى المثاليّة.}}
نعلم جيداً أن معهد الدراسات الاجتماعية Institut für Sozialforschung (قبل أن يصبح “مدرسة فرانكفورت”) قد قام على أساس كونه معهداً للدراسات الماركسيّة Institu für Marxismus . (1923). كان اليسار الألماني في تلك الفترة يحاول بناء “نظرية نقدية” من أجل تحليل أسباب إخفاق الحركات السياسيّة الماركسيّة والبحث في سبب غياب الثورة عن الغرب. لكننا سنلاحظ أن الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت سيبتعد منذ تولي هوركهايمر لإدارة المعهد عام 1930 عن تلك الاشتراطات الماركسية والتحليلات الاجتماعية المستندة إلى أولوية العامل الاقتصادي والبنى التحتيّة. هكذا نلاحظ عند مفكّري ذلك الجيل عودةً ملحوظة وبشكلٍ مُطّرد إلى مفردات ماركس الأول، ومنها إلى المفردات الهيغليّة مثل مفهوم الإنسان، ومفهوم العقل ومفهوم الوعي، التي كان قد حل مكانها عند ماركس الأخير مفردات الفرد العامل والبراكسيس والماديّة العلمية والتاريخيّة. بمعنى آخر لقد سار الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت عكس تاريخ تطور الفكر. وما أعنيه هنا من ماركس إلى هيغل وليس العكس بعد أن تأرجحوا فترة لا بأس بها يبن ما أُسميه “الفلسفة العملية والفلسفة النظرية”، قبل أن ييّمموا وجههم نحو الثانية على حساب الأولى. لقد حصلت هذه الخطوة المهمة في تاريخ المدرسة بفضل تأثرها بمجموعة من المفكرين الذين أثّروا في خروجها من أفق الماركسية الأرثوذوكسيّة الضيق نحو أفق المعرفة الرحب. لقد كان لتأثير ماكس فيبر وبخاصة كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” (1905) وكذلك جورج لوكاتش الأول وكتابه “التاريخ والوعي الطبقي” (1923) أن أغنت المدرسة نفسها وتجرأت على كسر التعاليم الماركسية الماديَّة الضيقة. ولعل هذه ميزة تمتعت بها بالإجمال ماركسية ألمانية الغربية على خلاف ماركسية ألمانية الشرقية التي ظلت بمعنى ما ماركسية ستالينيّة. أودّ أن أقول بذلك أن المثالية التي تم طردها من الأبواب مع ماركس الأخير ومع الماركسية الأرثوذوكسية قد عادت لتدخل من الشباك مع فيبر ولوكاتش الأول وكورش ومع الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت. لم يؤدّ مثل هذا التغيير إلى عودة المثالية إلى الماركسية فحسب، وإنما إلى انفتاح الماركسية (ممثلةً بمدرسة فرانكفورت هنا) على مجموعة من المدارس الفلسفية الأُخرى. بهذا لم تبق الماركسية هي المصدر الوحيد لتوجهات المدرسة، وإنما تمت مزاوجة الماركسية مع غيرها من المدارس النظرية الأُخرى دون أن يعني هذا التخلي عن فلسفة ماركس. هكذا أخذت المدرسة تعرف فروعاً جديدة مثل الماركسية- الفرويدية أو نظريات النقد الأدبي ونظريات الفن الخ.. حتى أن نتيشه أيضاً كان مصدراً خفياً حيناً وصريحاً حيناً آخر من مصادر الرعيل الأول لمدرسة فرانكفورت، وخاصة في كتاباته المتأخرة، حيث نلمح ظله على الهوامش وبين السطور وأحياناً بطريقة واضحة، مثلما فعل هوركهايمر وأدورنو مثلاً في كتابهما المشترك “جدل التنوير”. من المؤكِّد أن أصالة الذوق الجمالي عند الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت كانت ستقوده إن عاجلاً أم آجلاً إلى نيتشه الذي سيجدون عنده إرادة التحرر الطوباوي الكامنة في الحس الجمالي.
لقد أدى هذا التوجه الجديد عند الجيل الأول لتلك المدرسة إلى نقدهم للتجليات السياسيّة للماركسية الأرثوذوكسيّة، المتمثلة حينها بشكلٍ أساسي في النظام الستاليني، حيث ساووا بينه وبين الرأسمالية بعد أن رأوا في كلتا الظاهرتين وجهين لعملة واحدة. بالمقابل كان لا بدّ لذلك أن يفتح نيران النقد من قبل المعسكر الماركسي الأرثوذوكسي الرافض لأي تجديدٍ ماركسي، والذي لم يتوان عن شكوكه وكيل التهم ضد مدرسة فرانكفورت. وعلى أية حال علينا أن ننتبه أن هذا المنحى المثالي الجديد الذي أخذه الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت بقيادة هوركهايمر، لم يبعده عن الاستمرار في نقد المجتمعات الصناعية البرجوازية، لكن وتحت تأثير العودة إلى هيجل عبر لوكاتش الأول، سيقوم هذا الجيل بإعطاء الأولويِّة لتحليل البنيّة الثقافية في تلك المجتمعات بدلاً من التركيز على البنيّة التحتيّة على الطريقة الماركسية الكلاسيكيّة. لقد أكّد ماركس في السابق أن التغيرات في البنية الفوقية لمجتمعٍ ما بما فيها الثقافة تعتمد على التغيرات الاقتصادية في البنية التحتيّة، لكن الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت كان قد أدرك حينها أن الصراع الطبقي كمحرك للتاريخ، لم يعد كافياً أو حتى ممكناً لشرح حالة المجتمعات ما بعد الصناعية، فبدأ مفكروه بإعطاء الأولوية لنقد البنية الفوقية ممثلةً بالثقافة. بهذا المنهج الجديد يقوم رواد مدرسة فرانكفورت (هوركهايمر وأدورنو وماركوز وفروم) بنزع الحجاب عن الوجه التكنوقراطي والوضعي للنظم الإجتماعية المعاصرة، مركّزين بذلك على نقد ثقافة الهيمنة التي تسود في مثل تلك المجتمعات.
مع صعود النازية واستلامها سُدة الحكم في ألمانيا اضطُر الرعيل الأول لمدرسة فرانكفورت، وقد كان معظم مفكّريه من اليهود، إلى هجر ألمانيا واستقر بهم الحال في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد أدى تعرفهم عن كثب على أوضاع المجتمع الأمريكي إلى قناعتهم بضرورة تجديد أدوات الماركسية حتى تستجيب لدراسة الأوضاع الاجتماعية المستجدة التي اختلفت كثيراً عمّا كان قد نظَّر له ماركس. هناك في المهجر تفتح وعي ذلك الجيل الفرانكفوتي على أزمة الإنسان المعاصر وتعقد البنى الثقافية في مجتمعات عالية التعقيد مثل المجتمع الأمريكي، حيث سيزداد عندهم ذلك الحس النقديّ كما يتجلى ذلك في كتاباتهم في المنفى. مع انتهاء الحرب يعود بعض مفكري الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت إلى ألمانيا المحطمة حيث سيواجهون هذا الواقع بتكثيف الحسّ النقدي عندهم، الأمر الذي سيقودهم شيئاً فشيئاً إلى فقدان الثقة بمشروع التنوير، متسائلين كيف كان لألمانيا ذات التقليد الفلسفي العريق الممتد من كنط حتى ماركس، أن تنتهي إلى بلدٍ تحكمه القوى السياسية اللاعقلانية. في بحثه عن الأسباب، ينتهي الجيل الأول إلى إدانة عقل التنوير بوصفه عقلاً أداتياً مصلحياً، وإلى إدانة الفلسفة الوضعية التي تُمثِّل بشكلٍ ما التعبير الأمثل عن تلك العقلانية الأداتية.
{{ * التشكيك بالتنوير وبالحداثة}}
يمكن لنا القول إنّ الفلسفة السياسيّة الأوروبية المعاصرة ليست- بشكلٍ عام جدّاً- سوى إعادة اعتبارٍ وتأملٍ بمثل عصر الأنوار، بما تتضمنه تلك المُثل من ثقةٍ بمصير الإنسان، وتقدمٍ وسلامٍ عادلٍ بين الدول. لقد دفعت الحرب العالمية الثانية إلى مساءلة مشاريع التنوير تلك التي بدت كما لو أنها مجرد أضغاث أحلام، أو كما لو أن أحلام القرن الثامن عشر قد انقلبت إلى كوابيس، حيث استنتج مفكرو الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت أن التقدم قد انقلب إلى بربريَّة، وأن العقل لم يتطور إلا في الشكل التقني الأداتي بينما تراجع كثيراً على المستوى الأخلاقي. مرَّة أخرى تفرد بومة منيرفا جناحيها بعد حلول الليل مدركةً بوعيها الشقيّ أن الطفل البريء الذي كان عليه القرن الثامن عشر قد كبر في القرن العشرين، وصار بالغاً وعليه أن يتحمَّل مسؤولية انحرافاته السابقة، حيثُ ستسيطر هذه الصورة السوداوية على المشهد الثقافي الألماني منذ عام 1945. قبل بضعة عقودٍ من ذلك التاريخ، كان الرومانسيون الألمان قد أعلنوا قلقهم من سيطرة العقلانية على العالَم كما أن ماكس فيبر قد أعلن، بطريقته المختلفة قليلاً عن الرومانسيين، أن العالَم الأوروبي قد فقد سحره أثناء سيرورة العقلنة والتحديث التي مرَّ بها.
بشعوره بالرعب بهيمنة العقلانية الأداتية على مختلف مناحي الحياة، يُكرس الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت العديد من الأعمال لنقد هذه النمط من العقلانية، حيث يشغل كتاب “جدل التنوير” لكلٍ من هوركهايمر وأدورنو حيزاً مهماً ومميزاً في مؤلفات ذلك الجيل النقدية، فيبدأ مؤلفا الكتاب بنقد عقلانية التنوير التي مثَّلت بالنسبة لهما جذر أزمة انسداد آفاق الحداثة. بل إنهما يذهبان إلى أنّ النازية لم تكن إلا نتيجة طبيعية لسيرورة العقلانية الغربية التقنية الأداتية التي قادت الغرب إلى البربريّة. هنا نلمح طيف نيتشه، بل تجسّده الكامل،إذ يعلن المؤلفان صراحةً أنّ “نيتشه كان من الفلاسفة النادرين بعد هيغل الذين تعرَّفوا على جدل العقل، وهو من صاغ علاقاته المتناقضة مع السُّلطة3”. في هذا الكتاب يعيد كل من هوركهايمر وأدورنو مساءلة عصر التنوير الذي أراد “تحرير الناس من الخوف وجعلهم أسياد أنفسهم، وهو الذي كان يهدف إلى تحرير العالَم من السحر، بعد أن رشَّح نفسه للاضطلاع بهدم الأساطير وتزويد المخيلة بسند المعرفة4.” ولكن هل نجح التنوير فعلاً في التحرُّر من الأسطورة؟ إن جواب هذين المفكرين على هذا السؤال هو بالنفي القاطع إذ أنّهما يريان أنّ هذا العقل الحسابي البارد، الذي يهمين منذ بداية عصر الأنوار والذي أصبح قوة كلية “لا يستطيع أي شيء أن يكبحها”، سوف يتوحّد مع نقيضه أي مع الأسطورة فهما يؤكدان “تُصبح الأسطورة عقلاً وتُصبح الطبيعة وضعيةً خالصة، ويدفع الناس ثمن تزايد سُلطتهم بأن يصبحوا غرباء عما يمارسون سلطتهم عليه. إنّ العقل يفعل إزاء الأشياء كما يفعل دكتاتور إزاء الناس: فهو لا يعرفهم إلا بمقدار ما يستطيع التحكّم بهم5.” هكذا تتحوّل حتمية نبوءة الأوراكل التي لا مفرّ منها والتي يخضع لها أبطال الأسطورة إلى حتمية المنطق الوضعي والعلوم الدقيقة: “مثلما تُكمل الأساطير التنوير، فإن هذا الأخير يتورط أكثر فأكثر في المثيولوجيا. إنه يتلقّى جوهره كلّه من الأساطير من أجل أن يدمّرها، وهو بدقّة يقع في سحرها بممارسته لوظيفته كقاضً6.”
على امتداد صفحات هذا الفصل من الكتاب لا يتوقف أدورنو وهوركهايمر عن مقابلة بل ومماهاة العقل بالأسطورة، ليؤكدا في النهاية أن الجاني (العقل) سيتقمص دور ضحيته (الأسطورة) في آخر الأمر. هكذا سيحلّ العقل الأسطوري مكان إلغاء الأسطرة، وسيصبح الجانب اللاعقلاني من الإيمان “أداةً عقلانية يستقي منها أولئك “المتنورون” بالكامل والذين يقودون المجتمع نحو البربريّة7 .”
في الجزء الثاني من الكتاب المعنون ﺒ “عوليس، أو الأسطورة والعقل”، يُطابق هوركهايمر وأدورنو مغامرة عوليس مع مغامرة التنوير. فكما حصل مع التنوير يجد عوليس نفسه يقاتل القوى الأسطورية التي يفقد في صراعه معها انسجامه مع الطبيعة. وبكلام آخر نقول؛ كما ظهرت الفردانية والذاتية أثناء صراع التنوير مع الأسطورة، فإنّ عوليس أيضاً لم يُصبح “ذاتاً” منفصلة ومستقلة عن الطبيعة إلا عندما قام بالهرب “من وجه القوى الأسطورية8″، حيث وجد نفسه مُضطراً أن يعتمد على “ذاته” في مواجهة الطبيعة وقواها التي لم تكن حتى وقت قريب خارجة عنه. ليحمي نفسه من سطوة هذه القوى الأسطوريّة المعادية، يُطوِّر عوليس بفضل حكمته نمطاً من العقلانية الأداتية المتمثِّلة بالأدوات التي يقوم بصناعتها بنفسه، ليدرأ شر تلك القوى الخرافية عبر مجموعةٍ من الحيل الماكرة التي تحمي حياته عدّة مرات أثناء رحلته الأوديسية. إن هذا العقل الأداتي المحتال لعوليس سيصبح نمطياً في القيم الحديثة عند الإنسان الاقتصادي homo oeconomicus.
لكي يتغلب على الطبيعة الخارجية كان عوليس (الذي يمثل، وفقاً ﻟ “جدل التنوير” الإنسان الحديث والمتنوِّر) مُجبراً أن يقهر طبيعته الداخلية أولاً. يعود هوركهايمر وأدورنو إلى ذلك الفصل الملحمي من أوديسة هوميروس الذي كان يتوجب فيه على عوليس المرور بمركبه من أمام جزيرة حوريات البحر دون أن يسُدّ أذنيه حتى يستمع إلى غنائهن الذي لا يمكن مقاومته. قبل عوليس هذا الشرط الإلزامي لكي يواصل رحلة العودة إلى إيثاكا، وقد وجد أنّ الحل الوحيد لتجنُّب هذه العقبة في أن يقيّد نفسه بإحكام إلى سارية المركب، بعد أن طلب من رجاله أن يغلقوا آذانهم وألا يستجيبوا أبداً لأوامره وتوسلاته حتى يعبروا الجزيرة. ينجح عوليس في هذا الاختبار وفي قهر قوى الطبيعة الخارجية، ولكنه دفع حريته ثمناً لذلك عندما قيَّد نفسه إلى السارية9 . هكذا في ترويضه للطبيعة الخارجية يروِّض الإنسان الحديث نفسه ويخسر حريته الذاتية ويقيّد نفسه. مرَّة أخرى تتشابه سيرورة التنوير مع عالم الأسطورة وفقاً للقراءة الخلاقة لمؤلفي هذا الكتاب.
كان لا بدّ لمثل هذا التوجه لدى الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت أن يتقاطع في نهاية المطاف مع ما سيُطلق عليه (حقّا أو باطلا) فلسفة ما بعد الحداثة الفرنسية. وفي الحقيقة إنّ ما أخّر تعرُّف فلاسفة فرنسا ما بعد البنيوين على إنتاج الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت، عدّة عوامل قد يكون أهمّها عدم ترجمة كتب هذه المدرسة إلى الفرنسية. بل يمكن القول إنها لم تكن معروفة أبداً في الأوساط الثقافية الفرنسية إلا على نحوٍ ضيق جداً حتى بداية السبعينات من القرن الماضي. كان لتأخّر ترجمة أعمال هذا الجيل الأول للمدرسة نتيجة طريفة تتمثل في استمرارية وانقطاع التاريخ، إذ من الملفت أن تكون اهتمامات الفلاسفة الفرنسيين في الستينات هي نفس اهتمامات مدرسة فرانكفورت في الأربعينات والخمسينات. إذ سيكتشف فلاسفة الاختلاف الفرنسيون – متأخرين قليلاً – أنّ أسئلة حاضرهم هي ماضي أسئلة مدرسة فرانكفورت. هكذا سيتحسّر مشيل فوكو مثلاً على تأخّره في التعرّف على إنتاج الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت، فيعلن في عام 1978 في مقابلة صحفية “لقد فهمتُ أن ممثلي المدرسة كانوا قد حاولوا أن يثبتوا، أبكر مني، أشياء قد أجهدتُ نفسي أنا أيضاً في إثباتها منذ سنوات10” ثم سيؤكّد بعد ذلك”عندما عرفتُ جدارة فلاسفة مدرسة فرانكفورت، كنتُ قد فعلتُ هذا بذلك الوعي التعِس لذاك الذي كان عليه أن يقرأهم قبل ذلك بالكثير، وأن يفهم بشكلٍ أكبر. لو أنني كنتُ قد قرأت هذه الأعمال، لكانت هناك كمية كبيرة من الأشياء التي كان يمكن ألا أكون بحاجةٍ إلى قولها وكان يمكن لي أن أتجنَّب الأخطاء.”11
في مقدمته للطبعة الانجليزية الصادرة عام 1996 يؤكد مارتن جاي على مثل هذا الرابط بين توجهات الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت مع ما بعد الحداثة حيث يقول: “ومع ذلك فإنه وفي بعض الاعتبارات يمكن القول أن المسار النظري العام بالنسبة للعديد من أعضاء الجيل الأول للمدرسة على الأقل قد مهّد الأرض أمام التحوّل ما بعد الحداثي ووجد بذلك جمهوراً جديداً لأعماله. […] من جهةٍ أُخرى فإن يُمكن رؤية النقد الجذري لتقاليد العقلانية التكنولوجيّة الأداتيَّة الغربيّة، المُطوّرة بشكلٍ مُكثّف في “جدل التنوير” باجتراراته السوداء حول تضافر الأسطورة والعقل على أنها تنويعات كامنة تتناغم مع الشك ما بعد-الحداثي بكل نُسخ العقل.”12
هذا وقد قامت عديد الدراسات بإجراء مقارنات بين كتاب “جدل السلب” لأدورنو وتفكيكيّة جاك دريدا الذي يتحدث في كتابه “قوّة القانون” (1994) بإعجاب كبير عن فالتر بنيامين. بمناسبة استلامه لجائزة ثيودور أدورنو عام 2001 سيكرِّس جاك دريدا نصاً طويلاً رائعاً يتحدث فيه عن أوجه الشبه بينه وبين كل من أدورنو وبنيامين، نقرأ فيه مثل هذا الاعتراف المفاجئ: ” منذ عقود وأنا أسمع أصواتاً، في الحُلم كما يُقال، وهي أصواتٌ صديقة في بعض الأحيان وأحياناً لا. هي أصواتٌ داخليَّة. تبدو وكأنها تقول لي جميعها: لماذا لا تعترف، بوضوح وبشكلٍ علنيّ، مرَّة واحدة وإلى الأبد، بتلك القرابة بين عملكَ وعمل أدورنو، وبالحقيقة بذلك الدين الذي تُدين به لأدورنو؟ أولستَ أحد وارثي مدرسة فرانكفورت.”13
ويمكن لنا باختصار أن نتحدث عن مجموعة من النقاط المشتركة بين توجهات هذا الجيل وبين توجهات تيار ما بعد الحداثة مثل نقد العقلانية والتشكيك بأسس التنوير ونقدها والنزعة التشاؤمية من مآلات الحداثة وجذرية النقد وأخيراً الاهتمام بقوة الفن المُحرِّرة التي تقدِّم بديلاً أجمل من قسوة الواقع. ولنتذكر أن الفن ونظريات الأدب كان المحور الأبرز في آخر إنتاجات ذلك الجيل.
بامتلاكه الصوت الأكثر انتشاراً للجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت، يُدين هابرماس بِشدّة هذا التوجه لدى أسلافه الفرانكفوتيين ويصنفه توجّهاً ما بعد حداثي انزلق إلى مزالق النيتشوية الخطيرة. ولكن لننتبه هنا أن الأمر لا يخلو من عملية قتل الأب فكرياً بالمعنى الفرويدي. وإذا كان هابرماس (مساعد أدورنو سابقاً) قد انتقد آراء أساتذته بل قلبها رأساً على عقب، فإنّ مفكري الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت أخذوا يُسائلون إنتاج هابرماس الذي يرون أنه قد ابتعد، وبشكلٍ كبيرٍ صار يحتاج إلى المراجعة، عن معالم المدرسة التي خطها ذلك الجيل الأول. وبمعنى آخر ما فعله هابرماس بأسلافه حصل معه هو نفسه، إذ عاد العديد من ممثلي الجيل الثالث إلى توجهات الجيل الأول للمدرسة، مبتعدين بذلك عن فلسفة هابرماس. ولعل أكثر من وجه النقد لهابرماس في هذا الصدد هو مساعده الشخصي السابق في مدرسة فرانكفورت الفيلسوف الألماني ألبرت فيلمر. هكذا نلمح عند بعض أفراد الجيل الثالث، وخاصة فيلمر، عودة إلى تلك التوجهات النظرية الفلسفيّة الأصيلة، بعد أن حوّلها هابرماس إلى مجموعة من الأنساق الفكرية التواصلية واللغويّة والاجتماعية، دافناً وراءه تلك الروح الفنيّة التراجيديّة التي طبعت ذلك الإنتاج الفلسفي الخلاق لأفراد الجيل الفرانكفورتي الأول.
0 تعليقات
أكتب لتعليق