هل يمكن للفلسفة أن تساهم في فهم عالمها وتغييره؟ وإذا كان الجواب بالسلب، فلماذا الفلسفة إذن؟ ولماذا تستحوذ على عقول الكثيرين وقلوبهم بل وحياتهم رغم وعورة مسالكها ووحشة مساكنها وعزلة أبطالها؟ وإذا لم تتناول الفلسفة قضايا الإنسان ومشاكله فهل علينا أن نُحرق كتبها كما طالب ديفيد هيوم أن نفعل بكتب الميتافيزيقا؟ وكيف سنبرّر عندها المجلّدات التي كُتبتْ في الانطولوجيا والميتافيزيقا والجمال والمنطق؟ للإجابة على هذه الأسئلة العويصة سأعود قليلاً إلى الوراء لأحاول إعادة الاعتبار إلى تلك المواقف الفلسفيّة الخالصة غير الإيديولوجية وغير التطبيقية التي كثيراً ما تمّتْ مهاجمتها وإدانتها باسم عدم جدواها وعدم منفعتها وانحصارها في التأمل الخالص.
لقد قال شيشرون بأنّ سقراط قد أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض. أي أنّ اهتمام الفلسفة قد تحوَّل في الحقبة السقراطيّة من التساؤل عن مبدأ الوجود الأول وأصل الكون إلى التساؤل عن الإنسان ومعرفته لذاته. لا شكّ أنّ سؤال “الإنسان” في تلك الحقبة (القرن الخامس قبل الميلاد) كان الموضوع الأساسيّ لاهتمام الفلسفة فعلى معبد “دلف” نُقشتِ العبارة المشهورة: اعرف نفسك بنفسك، وكان السفسطائيّ الشهير بروتاغوراس قد أعلن عندها أنّ الإنسان هو مقياس جميع الأشياء. بين السماء والأرض سيتأرجح أفلاطون وأرسطو فالأوّل الذي رأى أنّ موجودات الواقع المادّيّ ما هي إلا صورٌ ناقصة وغير مكتملة لعالم المثل العلويّ التامّ هو نفسه الذي رأى بأنّ الفلاسفة هم أفضل من يرعى شؤون الحياة العملية وأقصد هنا سياسة البشر وحكمهم. إنّ أفلاطون الذي كتب محاورة “فيدون” ليتحدث عن الروح هو أيضاً الذي خطَّط نظاماً لحياة الإنسان السياسيّ على الأرض في كتابه “الجمهورية”. أمّا أرسطو الذي وجدّ في الانطولوجيا الفلسفة الأولى، هو نفسه الذي تحدّث بالمقابل عن الإنسان كحيوان اجتماعيّ سياسيّ والذي كرَّس له مؤلفه المعروف “في السياسة”.
بهذا الشكل المتأرجح الذي يراوح بين الفلسفة النظرية والفلسفة العملية سيستمر الحراك الفلسفيّ في أوروبا وعند معظم الفلاسفة الذين جاؤوا بعد أرسطو. ولو ضربنا صفحاً عن الإنتاج الفلسفيّ في العصور الوسطى حيث كان فلاسفة تلك الحقبة “يعرفون خريطة الفردوس أكثر من كتاب الأرض”، فإنا سنجد أنّ الفلاسفة الحديثين قد انشغلوا بالأسئلة الفلسفيّة الخالصة كسؤال المعرفة بقدر ما اهتمّوا بمسائل الإنسان ومشاكله السياسية والاجتماعية والأخلاقية وبمعنى آخر الفلسفة العملية. إذا استثنينا مثالين اثنين يشذّان عن هذه القاعدة- أحدهما صبَّ اهتمامه على الفلسفة النظرية والمقصود هنا ديكارت، وآخر لم يحفل بأمور الفلسفة النظرية وركّز جُلّ اهتمامه على مسائل الفلسفة العمليّة كفلسفة القانون والسياسة والمعني هنا توماس هوبز- فإننا سنلحظ انشغال الفلسفة الحديثة بأسئلة السماء وبأسئلة الأرض معاً.
فجون لوك الذي كتب ” مقال حول الفهم الإنسانيّ 1690″ هو نفسه من كتب “مقالتان عن الحكومة 1689 “. أما ديفيد هيوم الذي كتب “مبحث في الفهم الإنسانيّ 1751″ هو أيضاً من انشغل وعلى مدى عدّة سنوات بكتابة مقالات حول السياسة والأخلاق جُمعَت في كتاب صدر عام 1741 تحت عنوان ” مقالات أخلاقية وسياسية”. وإذ يكتب سبينوزا في الفلسفة النظرية كتابه ” أفكار ميتافيزيقية 1663″ فإنه سيكتب كذلك كتابه المشهور في الفلسفة العملية ” رسالة في اللاهوت والسياسة 1676″. أما لايبنتز صاحب كتاب “المونودولوجيا 1714” فقد أخذت الفلسفة العملية جزءا من اهتماماته أيضاً فكتب فيها “منهج جديد لدراسة القانون 1668”. في مشروعه النقدي الثلاثي يُعبِّر كنط خير تعبير عن اهتمامات الفلسفة الأساسية في عصره والتي يصوغها بأسئلته الثلاثة التي بنى على أساسها مشروعه النقديّ. فسؤاله الأوّل: ماذا أستطيع أن أعرف؟ يُعبِّر عن سؤال الفلسفة النظريّ والذي سيحاول الإجابة عليه بكتابه “نقد العقل المحض” الذي ظهرت طبعته الأولى عام 1781. أمّا السؤال العمليّ: ماذا عليّ أن أفعل؟ فسيجيب عنه في كتابه “نقد العقل العمليّ 1788”. هكذا لم يبق عليه إلا أن يجيب عن سؤالٍ نظريٍّ من طبيعة مختلفة عن طبيعة المعرفة أي سؤال الحكم الجماليّ الذي سيكرِّس له مؤلّفه “نقد مَلَكة الحُكم 1790″.
منذ أفلاطون وحتى كنط والفلسفة تمشي علي قدمين اثنتين: نظرية وعملية وقليلاً ما رأيناها عرجاء. لن يشُذّ هيغل عن هذه السُّنَّة التي خطّتها الفلسفة لنفسها- رغم تلوّناتها الكثيرة – وأقصد هنا دائماً جانبي الفلسفة النظريّ والعمليّ. لكن مع هيغل لن يظلّ هذان المبحثان منفصلين بل سيؤدّي أحدهما إلى الآخر تاريخياً. فالعقل الذي تمّ التعبير عنه كنطياً بوصفه عقلا مُجزَّأً، سيوحِّد جبهاته الثلاث في عقلٍ تاريخيّ يحقّق معرفته ويتجسّد عينيّاً عبر سيرورة الروح. فبعد أن يغترب الروح عن ذاته، فإنه سيجد معادله السياسيّ حيث يتجسّد الروح المطلق في الدولة القومية وتتعرّف الذات على ذاتها تماماً بعد رحلتها الأوديسيّة. إنّ الروح برحلته الميتافيزيقية يتعين في مجتمع تحكمه القوانين والأنظمة والشرائع وما مؤَلَّف هيغل ” مبادئ فلسفة الحق 1821″ إلا دمجٌ خلاّقٌ بين مهمّتي الفلسفة النظرية والعملية. هكذا فإنّ الذي تحدّث عن روحٍ مُطلق كان قد تحدّث عن روحٍ موضوعيٍّ أيضاً. وصولاً إلى هيغل الذي بدأ بالفكرة وانتهى بالدولة لم تتخلَ الفلسفة بالإجمال عن إحدى مهمتيها النظرية والعملية كما لو أنّ الفلاسفة أدركوا حتى ذلك اليوم أنّ الانتقاص من إحدى هاتين المهمّتين هو انتقاصٌ من الفلسفة نفسها: فلو اهتمّ المرء بالأسئلة العملية فقط لأصبح مجرَّد باحثٍ سياسيّ أو مشرِّعٍ قانونيّ أو عالِم اجتماع، ولو أنّه اهتم بالأسئلة النظرية فقط لانزوى في برجه العاجيّ وأعلن عدم انتمائه إلى واقعه وزمانه.
فقط مع ماركس ستختار الفلسفة بين النظرية والتطبيق حيث سيعلن مرحلة إلغاء الفلسفة لنفسها وضرورة تجاوزها. مع ماركس الأخير ستقيم الفلسفة قطيعةً مع أسئلة الوجود الكبرى وستنتزع الإنسان من سياقاته الكونية لتجعل منه مجرَّد فرد عاملٍ في مجتمع يحكم تطوّره الصراع الطبقيّ. مع ماركس الأخير تأخذ أسئلة الفلسفة الكبرى بالاختفاء وتقترب الفلسفة من العلوم الوضعية حتى تذوب فيها وينحلّ العقل في البراكسيس والنظرية في التطبيق والروح في المادّة والآلهة في الآلة والتأمّل في العمل والفلسفة في الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلوم المادة. هكذا يتشخصن المطلق ويغدو اغتراب الروح الهيغلي اغتراب العامل عن عمله في مجتمعٍ متفاوتٍ طبقياً. مع ماركس يبتلع السؤال العمليّ السؤال النظريّ وتكفّ مهمّة الفلسفة عن أن تكون تفسير العالَم فالمهمّ الآن تغييره كما كتب ماركس.
لم تكتفِ الماركسية بالقطيعة مع الميتافيزيقا والانطولوجيا أو بالاكتفاء بالتعامل الماديّ مع الواقع، بل كان عليها أن تؤكِّد ذاتها عبر إدانة الفلسفة النظرية. هكذا أخذنا نلحظ في الأدبيات الماركسية خطاباً إدانياً لكلّ المحاولات الفلسفيّة التي تتأمل أسئلة الوجود وأصل العالَم ومصيره. هكذا ستُطلق الأدبيات الماركسية عبارة: الفلسفة البرجوازية بالمعنى القدحي للعبارة على الفلسفات الغير مادية أو التأملية وباختصار على كل ما عداها، وقد يكون كتاب لينين “المادية والمذهب النقدي التجريبي 1908” إحدى أولى الإدانات للتفكير الذي يخرج عن العقيدة الماركسية. كما أن كتاب صادق العظم “دفاعاً عن المادية والتاريخ 1990” المتماسك جدّاً والأيديولوجي جدّاً هو أحد أفضل الأمثلة العربية على مثل ذلك “الإيمان” الماركسيّ حيث يعيد العظم في هذا الكتاب تناول الفلسفات السابقة على فلسفة ماركس من وجهة نظر هذه الأخيرة أي بوصفها مثالية (بالمعنى السيّئ للعبارة) أو بوصفها مادية فجّة أو غير تاريخية. بل حتى أنّ العظم يدين الماركسيات اللاحقة على ماركس مثل ماركسية جورج لوكاتش، ومدرسة فرانكفورت، وسارتر، وألتوسير الخ… واصفاً إيَّاها بأنها ماركسيات مشوِّهة أرادت من الماركسية الروح دون الجسد والمثالية على حساب المادية والثبات على حساب التاريخية والديناميكيّة. مع ماركس والماركسيين يدان التأمّل الفلسفيّ وينتصر الجانب العملاني في الفلسفة.
مع انتصار الفلسفة الوضعية في القرنين التاسع عشر والعشرين وتحوّل الماركسية إلى إرث سياسيّ يحلم بتغيير العالم وتقدُّم التكنولوجيا الذي أبعد الإنسان عن نفسه ومع النجاح الذي أحرزته الفلسفة البراغماتية الأمريكية أضاعتِ الفلسفة وجهها وأصبحت خاضعةً للعلوم الوضعية حتى أن بعض الأصوات تحدثت عن أنه لم يبقَ أمام الفلسفة إلا تحليل لغة العلم. أمام هذا التيار الوضعي العلمويّ الجارف ستظهر فلسفة هيدغر التي ستسبح عكس التيار وستحرِّر الإنسان من أبعاده الإنتاجية ومن قيود العمل والمجتمع وتعيده موجوداً ملقى في مواجهة الوجود والموت. لقد أدرك هيدغر أنّ الإنسان الحديث قد فَقَدَ معنى الوجود الذي أصبح منسيّاً تحت ركام الميتافيزيقا والتقنية وإذا كان ماركس قد ضرب بقوة قدميه على الأرض ليقول إنّه لا يوجد إلا الواقع المادي وليقول للإنسان أنتَ موجودٌ هنا في هذا الواقع، فإنّ هيدغر سيقول للإنسان أنك موجودٌ هناك تواجه مصيرك وحيداً في هذا الوجود الذي غابت عنه الآلهة. لقد حرَّر هيدغر الفلسفة من بعدها العمليّ وأعاد الاعتبار للبعد النظريّ التأمليّ هكذا أعلى من شأن الكيف على حساب الكم والشِّعر على حساب التقنية والمخيّلة على حساب المنطق واليد على حساب الأدوات.
لم يكتب هيدغر كثيراً حول أسئلة الفلسفة العملية وعندما فعل احتفل بالفوهرر وبالنازية مضفياً عليهما قيم الوجود والحقيقة. بالتزامن مع هيدغر سيحاول الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت أن يعيد النظر في موقف ماركس الذي أقام طلاقاً كاثوليكياً مع الميتافيزيقا. هكذا سيسير مفكرو الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت على خطى لوكاتش الشاب وأعني في الاتجاه المعاكس لتطوّر الفكر أي من ماركس إلى هيغل وهذا ما يفسِّر ابتعاد مفكّري هذه المدرسة شيئاً فشيئاً عن البحث الأمبريقي وانشغالهم عنه بالدراسات النظرية حول الثقافة.
رغم أنّ هوركهايمر وأدورنو كانا قد انتقدا هيدغر في غير موضع إلا أنهما تشاركا معه في نقد توجّهات الفلسفة العملية نحو التقنية الأداتية وتراجع مستوى الفنّ والأدب في عصر الاستهلاك الرأسماليّ أو توجّهات الفلسفة الوضعية. كانت لممثّلي هذا الجيل ميول أدبية وفنية أصيلة ما لبثتْ أن أخرجتهم من الفقه الماركسيّ الضيّق الذي يحصر الفلسفة بالممارسة لينفتحوا على جملة فروعٍ معرفية وفنية أُخرى كعلم النفس ونظريات الأدب والموسيقا من هُنا نلحظ ذلك النَفَس الشاعريّ السوداويّ في كتاباتهم المتأخرة. على خلاف هذا الجيل الأوّل وعلى خطى ماركس، يقيم هابرماس قطيعةً مع أسئلة الميتافيزيقا والأنطولوجيا ويعيد الإنسان من جديد إلى المجتمع بوصفه كائناً تواصلياً يسعى لأن يتفاهم ودياً مع الآخرين. من هنا سيعيد هابرماس بناء العلاقة بين النظرية والممارسة لصالح الأخيرة بكلّ تأكيد. هكذا لن نجد عند هابرماس أبداً مباحث تخصّ الفلسفة النظرية أبداً، بل ستصبح أسئلة الفلسفة العملية هي الوحيدة الجديرة بالطرح حيث سيؤكِّد على سؤاليْ السياسة الديمقراطية والأخلاق التواصلية.
كلّما قرأت هابرماس، كلّما ازدّدتُ إعجاباً بنبل مقاصده وبواقعية أحلامه، لكنه كاتبٌ تصالحيّ محافظ لا نجد عنده ثورية أفكار ماركس أو لوكاتش أو ذلك الحسّ المأساويّ في خطاب أسلافه الفرانكفورتيين. لن تجدوا عند هابرماس متعة الأُسلوب أو بريق المخيِّلة كما هو الحال عند نيتشه وفوكو وديريدا (رغم غموض هذا الأخير)، ليس لدى هابرماس حساسيّة الأديب أو أفق الفيلسوف، بل تقنيات عالِم الاجتماع المحترف.
ما زالت تسود إلى أيامنا هذه تلك الفلسفات التي ربطت الفلسفة بالعلوم الجزئية بحيث تقطّع جسد الفلسفة إلى أجزاء تغرَّب بعضها عن بعض الآخر، هذا وتعمِّق العولمة الهوّة بين الأثرياء والفقراء ويسود الاستبداد وتتراجع الحريات وينتشر التعصب الديني بشكلٍ متسارع الأمر يثير أسئلةً حول فاعلية الفلسفة في الواقع ويؤكِّد مستواها العمليّ دون النظريّ. رغم قناعتي أنّ الفلسفة قد غيّرت ولا زال بإمكانها أن تغيِّر وعي الإنسان وعلاقته مع الطبيعة ومع غيره من البشر وإيماني أنّ الإنسان قادرٌ على أن يصنع عالمه (وإن بشكلٍ جزئيّ) وأن يدفع به نحو الأفضل، إلا أنّني أؤمن أيضاً أنه مازالت للفلسفة جبهتان اثنتان لتقاتل عليهما في نفس الوقت: جبهةٌ عملية تريد تغيير العالّم والارتقاء بوعي الإنسان حتى يعترف بحقّ الآخر في الاختلاف وتنظم علاقات البشر في التواصل، وجبهة نظرية تصعد بالفلسفة من جديد من الأرض نحو السماء كي يرتقي الإنسان عروش الآلهة شاكِّاً بها ومزعزعاً طمأنينتها مستعيداً من جديد أسئلته الأولى عن أصله ومصيره التي لم تلقَ ولن تلقَى جواباً نهائياً بل ستظلّ أسئلة الإنسان طالما ظلَّ يفكِّر وظلّ يتساءل.
الفلسفة بين تأمّل العالم وتغييره
بقلم: خلدون النبواني
بقلم: خلدون النبواني
0 تعليقات
أكتب لتعليق