عندما تختلط الحريرة بالكرولوكين
السياسيون عندنا منشغلون بمعاركهم الحزبية الداخلية، اليسار يأكل بعضه بعضًا، والإتحاد الإشتراكي يطالب نصف مكتبه السياسي بمغادرة النصف الآخر.
الصحافيون يتشاكسون حول خلافات شخصية ومهنية عمرها عشرون سنة، أحدهم يعتبر أن الصحافة المستقلة انتهت معه عندما أغلق مجلاته وقرر مغادرة البلد للعيش والعمل خارجه، مع أن لا أحد منعه من نشر تحقيقاته الصحافية في شبكات التواصل الإجتماعي، والبعض الآخر يرى أن ليس كل صحافي اختار البقاء في المغرب وتحمل السجن والمحاكمات والغرامات هو بالضرورة عميل للمخزن.
والواقع أن هذا النقاش مهم لأنه ينزع الصنمية والتأليه عن بعض الأشخاص المتضخمي الأنا الذين اعتقدوا أنهم سجلوا الأصل التجاري للصحافة المستقلة بالمغرب في أسماء عائلاتهم، لكن رغم أهمية النقاش فأعتقد إن الوقت ليس وقته. لأن هناك ما هو أهم في البلد من الأنانيات والذوات المتضخمة.
أما المثقفون والكتاب والباحثون، الذين يعيش بعضهم في أبراجهم العاجية، وهم يتناقشون فيما بينهم عبر تقنية السكايب حول إشكاليات النخبة البعيدة عن موضوع الساعة، فجميعهم يتنافسون في الظهور جالسين أمام رفوف مكتباتهم التي تتزاحم فيها الكتب والمراجع، لكي يظهروا كمثقفين لا يشق لهم غبار، ومنهم من يظهر خلفية يبدو فيها صالون بيته بسقفه المزين بالنقوش الجبصية والثريات.
ونحن لا نحسدهم بل نتمنى أن يزيدهم الله من فضله، لكن بالمقابل لا يجب أن تعطينا هذه الصور مشهدا خادعا حول بيوت المغاربة .
وفي خلال هذا الوقت تحدث أشياء غريبة في المجتمع المغربي تطفو فوق مياه شبكات التواصل الإجتماعي التي توشك في بعض الأحيان أن تخلطها بشبكات الصرف الصحي، لفرط القذارات التي يرميها بعضهم فيها.
كثيرون أدانوا النسوة المراكشيات اللواتي ذهبن للإستحمام في بيت سيدة استثمرت في ريشو وبدأت تستقبل زبونات إلى أن التقطن فيروس كورونا فانفضح أمرهن.
الواقع أن الذي انفضح هو واقع نتجاهله جميعًا، وهو أن هناك ملايين المغاربة لازال التوفر في بيتهم على حمام بريشو حلما بعيد المنال. هناك ملايين المغاربة يسكنون في غرف داخل بيوت مشتركة لديهم مطبخ وحيد ومرحاض مشترك ولاشيء تقريبا من الحميمية.
هؤلاء المواطنون يحاولون أن يتعايشوا مع الندرة في كل شيء، يتعايشون مع الحاجة للأساسيات، ويدبرون الضيق وضنك العيش، ولو أن هؤلاء النسوة كان لديهن حمام في بيوتهن لما لجأن إلى بيت السيدة التي استثمرت في ذلك الريشو لتدبر حالها هي أيضا في هذه الأوقات الصعبة.
وأنا هنا لست أبرر خرق هؤلاء النسوة لقانون الطوارئ الصحية بل أحاول أن أفهم الواقع الذي دفعهن لفعل ما فعلن.
المشكل إذن أعمق من ريشو أو مجرد تحميمة مسروقة، بل يتعلق بملايين المغاربة يفتقرون لسكن لائق يحترم آدميتهم، هذا في ظل وجود نحو مليوني شقة شاغرة ومغلقة بالمغرب.
الحل بسيط وسهل، لماذا لا تشتري الدولة كل الشقق الشاغرة في التجزئات وتعيد بيعها للمواطنين المحتاجين للسكن بالسعر الذي كلفه بناؤها ؟ سيخرج الجميع رابحا من هذه العملية، أصحاب التجزئات الذين يشتكون من الركود، البنوك التي ستمنح قروض السكن، والمواطنون الذين سيغادرون تلك الجحور التي يعيشون فيها عيشة الدبانة فالبطانة لكي يسكنوا في شقق تتوفر فيها شروط العيش الكريم، وأكبر رابح سيكون هو الدولة التي ستحل المشكل من أساسه، وستوفر لمواطنيها مساكن تعيد لهم اعتبارهم وتحترم حميميتهم وكرامتهم.
شيء غريب آخر شاهدته في وسائل التواصل الإجتماعي يتعلق بفيديو لنساء وشباب في الحجر الصحي بأحد المستشفيات العمومية.
الفيديو الأول تظهر فيه حاجة في الستينات من العمر ما شاء الله رياضية مع راسها، عركتها كرولوكين وحريرة وناضت تتزعلل في مقبض حديدي لسرير طبي مشري بزبالة فلوس، وزميلاتها يصفقن لها ويضحكن. جاب الله مطاحتش وتكردت من ظهرها، أما كون راه الفيسبوك كامل ينادي ويطالب بتعليق مدير المستشفى بسبب إهمال نساء مسنات في العزل الطبي.
وفي الفيديو الثاني يظهر شباب يستعدون للنوم في غرفة بالمستشفى ولكي يطردوا الملل في الحجر الصحي يتبارون من سيحرق مصباح النور الأول، فيطفؤونه ويشعلونه دون توقف إلى أن تحترق البولة.
الخطأ الأول تتحمله إدارة المستشفى، لأن الغرف كلها يجب أن تكون مجهزة بكاميرات مراقبة وأي تصرف غير مناسب يمكن أن يعرض تجهيزات المؤسسة، التي اشترتها وزارة الصحة من أموالنا، للضرر فعلى المسؤولين التدخل مباشرة لتطبيق القانون.
الخطأ الثاني يتحمله طبعًا هؤلاء الأشخاص الذين وجدوا أنفسهم فجأة نزلاء في مستشفى ديال المخزن، يتعالجون بشكل مجاني ويحصلون على وجبات غذائية متوازنة ثلاث مرات في اليوم.
ونحن الذين كبرنا في حارات شعبية نتبارى فيما بيننا من سيكسر زجاج مصباح عمود النور بالجباد، وحول من سيقلب بركاصة البلدية ويهرب، نفهم هذا السلوك العدواني اتجاه ممتلكات الدولة.
أعتقد أن السلوك العدواني الذي تكشف عنه هذه الطبقة من المواطنين، ليس سوى تعبير عن الانتقام والكراهية والحقد تجاه الطبقات الاجتماعية الأخرى التي تعيش، بدرجة أقل، ضغط الأزمة الاقتصادية التي تمسك بخناق ثلاثة أرباع الشعب المغربي. فهؤلاء الصاعدون من الأحياء العشوائية التي هندسها سماسرة الانتخابات، وهؤلاء الزاحفون من المداشر والقرى، عندما يقودهم حظهم نحو مؤسسات عمومية في المدن يشرعون في التعبير عن وجودهم، عن غضبهم الدفين. كأنهم يريدون أن يعلم الجميع بأنهم موجودون أيضا ولديهم صوت يريدون إيصاله. صوت مكتوم وغاضب.
ولسوء الحظ، فرسائل هذا الشباب الفاقد لكل بوصلة، والناقم على البلاد بشوارعها ومصابيح نور مستشفياتها وزجاج حافلاتها وقطاراتها وواجهات محلاتها التجارية البراقة المحرومين من ارتيادها، وواجهات بنوكها حيث تودع أموال يسيل لها لعابهم يوميا، تتحول إلى هجوم بدائي على مظاهر هذه الحياة العصرية التي يرون بريقها في إشهارات التلفزيون وشاشات هواتفهم ويجاورونها في الواقع دون أن يحلموا بامتلاكها ذات يوم. لذلك فالحل، في نظرهم، هو تدميرها انتقاما لطبقتهم المحرومة وانتقاما من الطبقات الأخرى التي تعيش في هذا «النعيم» و«الرخاء» الاجتماعي.
إن هؤلاء الشباب الذين طوروا نزعة تدميرية تجاه أنفسهم بتشراط لحمهم، أو من يسمون أنفسهم "خطوطو"، وتجاه ممتلكات الدولة والمواطنين، هم في نهاية المطاف نتاج سياسة إدارة محلية فشلت في ضمان حظوظ متساوية لكل المواطنين لتحقيق ذواتهم. فهناك من جهة المدينة بأحيائها المرتبة والهادئة نسبيا، وهناك الهوامش المظلمة والفقيرة حيث لا لغة تعلو على لغة الخناجر والسيوف والمياه الحارقة.
أما المشهد الأخير الذي أريد أن أختم به فهو مشهد تلك السيدة التي تم استبعادها في التحليل الخاص بكورونا فأقيم لها استقبال شعبي حاشد في حيها يشبه استقبال العائدين من الحج، فسجدت وقبلت التراب وجمعت في راحتي يديها كل الفيروسات والميكروبات التي فوق الأرض وشرعت توزعها على كل من صافحها وعانقها.
هذا المشهد لوحده يعطينا صورة واضحة على الهوة المريعة والشاسعة بين من يستوعبون دقة وخطورة المرحلة بسبب الفيروس وبين من ليس لديهم إدراك بما يحدث. ردم هذه الهوة السحيقة لابد أن يكون هو ورش ما بعد كورونا، وهو يتطلب ترتيب النتائج واستخلاص الدروس مما حصل، يعني أن تأهيل ثلاث أرباع المجتمع المغربي صحيا وثقافيًا وتعليميًا واقتصاديًا هو الحل الوحيد لإعادة التوازن لطبقات المجتمع، حتى لا تشرع في الاحتكاك فيما بينها. والذين درسوا المبادئ الأولية في مادة الجيولوجيا يعرفون أن الهزات تبدأ عادة باحتكاك الطبقات التكتونية ببعضها البعض.
رشيد نيني
0 تعليقات
أكتب لتعليق