“مِن أين جاء الإنسان؟ تساءل أولا عما يكون؟ ذلك أنك حالما تَعْرِف طبيعتَه ،ستعْرِفُ أيضا أصلَه.” فيورباخ
إلى حدود اليوم ،مايزال فكر “فيورباخ” كما أكدنا في مقال سابق،يعيش الاغتراب و التهميش ،لا لشيء إلا لأن الرجل لم يساير روح عصره، الذي كان موسوما بالنفاق والكذب، الاستبداد وسيادة اللاهوت. ذلك أن “تُهمَتِي الكبرى كما يقول، إنما تعود إلى كوني”خُنْتُ شعار المرحلة“؛ لقد خُنْتُ نبرة”المجتمعات الفاضلة“مثلما خُنتُ نبرة الحياد، حيث يلزم المرء أن يكون بلا عواطف وبلا خصال ومستعدا للدفاع عن الأوهام والأحكام القبلية ومناصرة الكذب الذي يُجْمِع عليه الكل” . الحق أن ذنب فيورباخ ، إن كان لابد له من ذنب فإنما يعود إلى كونه كان يفكر ضد المألوف؛ لنقل بالأحرى، أنه فكَّر خارج المسموح به سياسيا، كما فكر ضد راهنه، الموسوم بسيادة الهيغيلية وانتصار الثيولوجيا. ولعل جرأته هاته على مواجهة الله والعالم، واستماتته في توجيه سهام النقد دونما هوادة للثيولوجيا، هي التي جعلتْ ثلة من الباحثين يؤكدون على أن فَهْمَنا لفيورباخ يكاد لا يستقيم دونما استحضار نقده للدين أساسا، وصراعه مع اللاهوت عموما. لكن إذا كان لفيورباخ خلافا لمعاصريه الحق في الكلام عن الدين، فذلك ليس إلا لأنه أوّلا، هو مَن أدركَ فَحْوَاه وجوهره لا في الكتب فحسب بل أيضا في الحياة؛ حياته الخاصة، طبعا، قبل حياة الآخرين؛ وثانيا لأن الرجل مَكَثَ طيلة عُمْرٍ بأكمله يتصارع مع نفس القضية التي هي القضية الدينية لا غير. ولابأس من الإشارة هنا إلى أنه، إنْ كان من المعتاد أن نجد أناسا يَقْضُون حياتهم كلها في الدفاع عن الله والدعوة للإيمان به، فمن الصعب بمكان، إنْ لم نقل من المستحيل، أن نجد نظيرا لفيورباخ الذي غامر بمستقبله الأكاديمي، وجازف بحياته ومشواره الخاص، من أجل حَمْل مشعل الفكر والتنوير والسباحة ضد التيار الظلامي السائد والمهيمِن؛ حيث ظل طيلة حياته يفكر ويكتب لا لشيء إلا ليوضح ويبرهن لعامة الناس، على أن الله لا وجود له. فضلا عن ذلك، يلزمنا أن نَعْلَم أيضا بأن الرجل قام بذلك وانخرط فيه يا للعجب، دونما غاية نفعية أو نُشْدان للمجد؛ فدافع عن خصوصية الإحساس بدل كونية العقل، وفكَّر في العلاقة القائمة ما بين نهاية المسيحية والبداية الممكنة لما يمكننا أن ننعته بـ“الأنتربولوجيا المحايثة”. فضلا عن ذلك، فلقد أصرَّ على المضي بعيدا حد أنه لم يكن ليقبل أدنى مصالحة مابين الفلسفة والدين، بل لم يكن ليرضى حتى بالقول بالتجاوز: تجاوز الفلسفة للدين. لماذا؟ لأن الرجل كان على علم كبير بآليات الاستلاب الكامنة في المنطق الديني، والتي تعمل على استعباد الأجساد وقتل الرغبة وزرع غريزة الموت ما بين الناس. وتلافيا لكل ذلك، إذن راح يؤسس للمصالحة؛ مصالحة الإنسان مع جسده بطبيعة الحال. لكنها مصالحة تكاد تغدو مستحيلة بحسبه دونما تَخَلُّصِنا من تُرهات الآخرة، وعوالم السماوات وأماكن إقامة الأفكار المثالية والماهيات والمقدسات. من أجل ذلك، تَجِدُه لا يكل يُوَجِّه لنا نصائحه قائلا: “اخضع لحواسك، فحيثما تبدأ الحواس، يتوقف الدين و الفلسفة، لكننا بالمقابل نلوذ بالحقيقة في كل عراها وبساطتها” . ولعل هذا النزوع الحسي الذي طغى على تصوراته هو الذي حدا به إلى طرح إشكالية واقعية وحقيقة الإنسان الحسي، في بحثه بعنوان: “ضد ثنائية الروح والجسد” حيث يؤكد على أن “الدين شأنه، شأن الثيولوجيا والفلسفة: إذ كُلَّما ابتعدَ عن الحواس كلما مضى بعيدا في تمجيده لكائنات فومحسوسة”. على هذا الأساس يبدو أن متعوية فيورباخ، تفترض منا أن نُعوِّل في تحقيق سعادتنا، على الواقع الحقيقي، المعاش لا إرجاءها إلى عوالم خيالية ، مقرونة بما بعد الموت. إلى هنا يبقى لنا أن نَلْمُس حدة المواجهة، و أن نستشعر مرامي الفيلسوف، بحيث بدل التعالي ينتصر للمحايثة وبدل الماهية يقول بالحواس وبدل الماوراء يؤكد على الهنا والآن. إننا هنا أمام بوادر فلسفة متعوية أقل ما يمكننا أن نقوله عنها إنما هو كونها فلسفة حديثة، تروم إعادة إضفاء الطابع المادي على الحياة rematérialiser la vie؛ ليغدو الإنسان مركز انشغالها. ذلك “أن الفلسفة المعاصرة هي التي تجعل من الإنسان الممزوج بالطبيعة (باعتبارها أساس الإنسان)الموضوع الوحيد، الكوني والأسمى في الفلسفة؛ إنها إذن فلسفة تجعل من الأنتربولوجيا الممزوجة بالفزيولوجيا علما كونيا” . انسجاما مع هذا النزوع الأنتربولوجي، إذن يرى فيورباخ أن الفهم الديني الذي ينبغي أن يسود إنما هو ذلك الفهم الذي بموجبه يستعيد الإنسان قدسيته ليضحى بتعبيره “الله إنسانا والإنسان إله”. لكن إلى أي حد بوسعنا القول بأن فيورباخ قد أفلح بالفعل في تخليص الإنسان من اللاهوت؟ وماهو التحديد الفلسفي الذي به يُميز الإنسان؟ و هل تَمكَّن بالفعل عبر منهجه الجينيالوجي من تفكيك صرح فكرة الله؟
إلى حدود اليوم ،مايزال فكر “فيورباخ” كما أكدنا في مقال سابق،يعيش الاغتراب و التهميش ،لا لشيء إلا لأن الرجل لم يساير روح عصره، الذي كان موسوما بالنفاق والكذب، الاستبداد وسيادة اللاهوت. ذلك أن “تُهمَتِي الكبرى كما يقول، إنما تعود إلى كوني”خُنْتُ شعار المرحلة“؛ لقد خُنْتُ نبرة”المجتمعات الفاضلة“مثلما خُنتُ نبرة الحياد، حيث يلزم المرء أن يكون بلا عواطف وبلا خصال ومستعدا للدفاع عن الأوهام والأحكام القبلية ومناصرة الكذب الذي يُجْمِع عليه الكل” . الحق أن ذنب فيورباخ ، إن كان لابد له من ذنب فإنما يعود إلى كونه كان يفكر ضد المألوف؛ لنقل بالأحرى، أنه فكَّر خارج المسموح به سياسيا، كما فكر ضد راهنه، الموسوم بسيادة الهيغيلية وانتصار الثيولوجيا. ولعل جرأته هاته على مواجهة الله والعالم، واستماتته في توجيه سهام النقد دونما هوادة للثيولوجيا، هي التي جعلتْ ثلة من الباحثين يؤكدون على أن فَهْمَنا لفيورباخ يكاد لا يستقيم دونما استحضار نقده للدين أساسا، وصراعه مع اللاهوت عموما. لكن إذا كان لفيورباخ خلافا لمعاصريه الحق في الكلام عن الدين، فذلك ليس إلا لأنه أوّلا، هو مَن أدركَ فَحْوَاه وجوهره لا في الكتب فحسب بل أيضا في الحياة؛ حياته الخاصة، طبعا، قبل حياة الآخرين؛ وثانيا لأن الرجل مَكَثَ طيلة عُمْرٍ بأكمله يتصارع مع نفس القضية التي هي القضية الدينية لا غير. ولابأس من الإشارة هنا إلى أنه، إنْ كان من المعتاد أن نجد أناسا يَقْضُون حياتهم كلها في الدفاع عن الله والدعوة للإيمان به، فمن الصعب بمكان، إنْ لم نقل من المستحيل، أن نجد نظيرا لفيورباخ الذي غامر بمستقبله الأكاديمي، وجازف بحياته ومشواره الخاص، من أجل حَمْل مشعل الفكر والتنوير والسباحة ضد التيار الظلامي السائد والمهيمِن؛ حيث ظل طيلة حياته يفكر ويكتب لا لشيء إلا ليوضح ويبرهن لعامة الناس، على أن الله لا وجود له. فضلا عن ذلك، يلزمنا أن نَعْلَم أيضا بأن الرجل قام بذلك وانخرط فيه يا للعجب، دونما غاية نفعية أو نُشْدان للمجد؛ فدافع عن خصوصية الإحساس بدل كونية العقل، وفكَّر في العلاقة القائمة ما بين نهاية المسيحية والبداية الممكنة لما يمكننا أن ننعته بـ“الأنتربولوجيا المحايثة”. فضلا عن ذلك، فلقد أصرَّ على المضي بعيدا حد أنه لم يكن ليقبل أدنى مصالحة مابين الفلسفة والدين، بل لم يكن ليرضى حتى بالقول بالتجاوز: تجاوز الفلسفة للدين. لماذا؟ لأن الرجل كان على علم كبير بآليات الاستلاب الكامنة في المنطق الديني، والتي تعمل على استعباد الأجساد وقتل الرغبة وزرع غريزة الموت ما بين الناس. وتلافيا لكل ذلك، إذن راح يؤسس للمصالحة؛ مصالحة الإنسان مع جسده بطبيعة الحال. لكنها مصالحة تكاد تغدو مستحيلة بحسبه دونما تَخَلُّصِنا من تُرهات الآخرة، وعوالم السماوات وأماكن إقامة الأفكار المثالية والماهيات والمقدسات. من أجل ذلك، تَجِدُه لا يكل يُوَجِّه لنا نصائحه قائلا: “اخضع لحواسك، فحيثما تبدأ الحواس، يتوقف الدين و الفلسفة، لكننا بالمقابل نلوذ بالحقيقة في كل عراها وبساطتها” . ولعل هذا النزوع الحسي الذي طغى على تصوراته هو الذي حدا به إلى طرح إشكالية واقعية وحقيقة الإنسان الحسي، في بحثه بعنوان: “ضد ثنائية الروح والجسد” حيث يؤكد على أن “الدين شأنه، شأن الثيولوجيا والفلسفة: إذ كُلَّما ابتعدَ عن الحواس كلما مضى بعيدا في تمجيده لكائنات فومحسوسة”. على هذا الأساس يبدو أن متعوية فيورباخ، تفترض منا أن نُعوِّل في تحقيق سعادتنا، على الواقع الحقيقي، المعاش لا إرجاءها إلى عوالم خيالية ، مقرونة بما بعد الموت. إلى هنا يبقى لنا أن نَلْمُس حدة المواجهة، و أن نستشعر مرامي الفيلسوف، بحيث بدل التعالي ينتصر للمحايثة وبدل الماهية يقول بالحواس وبدل الماوراء يؤكد على الهنا والآن. إننا هنا أمام بوادر فلسفة متعوية أقل ما يمكننا أن نقوله عنها إنما هو كونها فلسفة حديثة، تروم إعادة إضفاء الطابع المادي على الحياة rematérialiser la vie؛ ليغدو الإنسان مركز انشغالها. ذلك “أن الفلسفة المعاصرة هي التي تجعل من الإنسان الممزوج بالطبيعة (باعتبارها أساس الإنسان)الموضوع الوحيد، الكوني والأسمى في الفلسفة؛ إنها إذن فلسفة تجعل من الأنتربولوجيا الممزوجة بالفزيولوجيا علما كونيا” . انسجاما مع هذا النزوع الأنتربولوجي، إذن يرى فيورباخ أن الفهم الديني الذي ينبغي أن يسود إنما هو ذلك الفهم الذي بموجبه يستعيد الإنسان قدسيته ليضحى بتعبيره “الله إنسانا والإنسان إله”. لكن إلى أي حد بوسعنا القول بأن فيورباخ قد أفلح بالفعل في تخليص الإنسان من اللاهوت؟ وماهو التحديد الفلسفي الذي به يُميز الإنسان؟ و هل تَمكَّن بالفعل عبر منهجه الجينيالوجي من تفكيك صرح فكرة الله؟
إن هذه الأسئلة وغيرها هي ما سنحاول في هذا البحث الجواب عنها، اعتمادا بالأساس على مؤلفيه بعنوان: جوهر المسيحية وجوهر الدين. وإذا حاول فيورباخ في الجزء الأول من كتابه “جوهر المسيحية”، أن يعالج الدين من حيث ماهيته وحقيقته، معتمدا منهجا تحليليا يوضح بفضله أن مغزى التيولوجيا كامن في الأنتربولوجيا وبأنه لا اختلاف ما بين صفات الله وصفات الإنسان وبالتالي لا اختلاف ما بين الإنسان والله حامل صفاته؛ ففي الجزء الثاني حاول معالجة الدين من حيث تناقضاته، معتمدا بخلاف الجزء الأول منهجا نقديا، يؤكد فيه على أن التمييز مابين الصفات الإلهية والصفات الإنسانية تمييز تافه ولا أساس له من الصحة. لذلك، يلزمنا بحسبه إذن أن ندرك قوة الاستلاب الكامنة في المنطق الديني، بحيث أن ما يَنسُبُه الإنسان لله ليس في الحقيقة إلا ما يُحْرِم نفسه منه. ولما كانت الناس لا تُلْبِسُ الآلهة إلا لُبوسا من صُنعها، فمِنَ اللازم علينا أن نوضح آليات الحرمان هاته، كيما نجعل الناس يستعيدون ذواتهم وأجسادهم. لكن من أجل المصالحة مابين الإنسان وذاته، يلزمنا كذلك، أن نتخلص من كل العوالم الماورائية، وكل الفضاءات الأسطورية المفترضة والمحلوم بها.“يؤكد فيورباخ، إني لا أقول بأن الله لاشيء وبأن التثليث لا شيء… إلخ. إني أوضح فقط بأن هذه الأمور ليست كما يتصورها الوهم التيولوجي. إني أوضح بأنها بالأحرى ألغاز داخلية لا خارجية. ألغاز تعود أول ما تعود إلى طبيعة الإنسان لا إلى كائن خارجي. إني أوضح بأن الدين يتخذ الجوهر الظاهري والسطحي للطبيعة والإنسان، كجوهر حميمي وحقيقي، حد أنه (أي الدين) يجد نفسه مضطرا، جراء ذلك ذاته إلى أن يتمثل هذا الجوهر الحقيقي، كما لو كان كائنا مستقلا بذاته، وهكذا فكل الصفات التي يعزوها الدين لله وللفعل المقدس، صفات لا تَعْمَل إلا على تحديد وإبراز الجوهر الحقيقي للإنسان والكلام البشري” . هكذا يتبدى كيف أُقِيمَ التطابق مابين الله المسيحي والجوهر المجرد للإنسان حد اختزال الثيولوجيا في الأنثروبولوجيا؛ لا بل لنقل بتعبير الفيلسوف ذاته، حد إنزال الثيولوجيا إلى مراتب الأنثروبولوجيا والعكس أي رفع الأنثروبولوجيا إلى مدارك الثيولوجيا. وسيرا وراء نهجه الجنيالوجي، يمضي فيورباخ، أيضا، في كتابه “جوهر الدين”، بعيدا حد التوكيد، على أن “أساس الدين يعود إلى شعور الإنسان بلا استقلاليته (أي بارتباطه بشيء ما). أما موضوع هذا الارتباط، أي هذا الذي يرتبط به الإنسان ويشعر بنفسه في حاجة إليه فهو ليس شيئا آخر عدا الطبيعة. فالطبيعة هي أول موضوع ديني كما يؤكد على ذلك وبشكل شاف، تاريخ كل الأديان وكل الشعوب” .لكن فيورباخ لن يتوقف عند هذا الحد، بل سيسترسل في تحليلاته بحثا عن جدور الدين، ليصل بوضوح عز نظيره في الدرس الثالث حول جوهر الدين، إلى فكرة مفادها أن لله بحسبه، أصلان إثنان:“وإذا كان الأول يعود إلى الطبيعة باعتبارها خالدة لكنها بلاوعي، فالثاني يعود إلى الإنسان باعتباره كائنا واع لكنه غير خالد. ذلك أن إضفاء الطابع الشخصي على جوهر الطبيعة (شخصنة الطبيعة) هو ما يؤدي إلى الإيمان بإله قوي وخالق للكون؛ بينما تؤدي شخصنة جوهر الإنسان إلى الإيمان بإله شخصي، واع و عاقل أي إله مسيحي يتمتع بالإرادة والعقل والوعي” . لكن ما طبيعة هذا الوعي المُميِّزِ للإنسان والذي عنه يتكلم فيورباخ، لا سيما إذا علمنا أنه الوعي ذاته الذي ما فتئ يشكل عند الإنسان خلافا للحيوان “الذي لا دين له” بحسب فيورباخ، أساس الدين؟ .و لئن كان من البداهة بمكان اعتبار أن الفرق الرئيسي ما بين الإنسان والحيوان، إنما هو تميز الإنسان بالوعي، فما يلزمنا استيعابه هنا، إنما هو أن لمفهوم الوعي عند فيورباخ معنى دقيقا. من ثمة فالرجل إنْ كان لا يقصد بالوعي، تلك المقدرة على الإدراك والتمييز أو الحُكْم على الأشياء الخارجية بواسطة الحواس، مثلما لا يقصد به أيضا، الوعي من حيث هو الإحساس بالذات، لأنه ليس يَنْكُر وجود هذا النوع من الوعي عند سائر الحيوانات؛ قُلتُ إنْ كان لا يقصد بالوعي كل ذلك، فذلك ليس إلا لأن الوعي المميز للإنسان بحسبه، إنما هو ذلك الوعي الذي يجعل كائنا ما يستطيع أن يتخذ ماهيَّته كما جِنْسه موضوعا للتفكير. يوضح فيورباخ هذه الفكرة قائلا:“إنّ الحيوان يُحِسُّ بنفسه كفرد، إنّ لَدَيْه حقا، نوعا من الإحساس بالذات، لكنه لا يدرك ذاته كجنسespèce، وبذلك يكون محروما من الوعي الذي ينحدر اشتقاقا من فعل: المعرفة savoir .” لذلك فالإنسان وحده هو الكائن القادر على معرفة ماهيته وإدراك انتمائه لجنسه، فضلا عن كونه الكائن القادر على فحص الأشياء والتدقيق في كل الكائنات و الكواكب والأجرام والظواهر، التي تجري من حوله، ليصوغ عنها تصورا يكاد يناسب كليا هذه الأمور. تبعا لهذا يؤكد فيورباخ على أنه “حيثما يوجد وعي توجد المقدرة على العلم؛ ذلك أن العلم ليس إلا وعيا بالأجناس” . وسيرا وراء هذا المنظور يصل الأمر بـ“فيورباخ” حد توكيده على أن الإنسان فضلا عما سلف، هو من يعيش حياة مزدوجة خلافا للحيوان الذي ليست لديه سوى حياة بسيطة. “إن الحياة الداخلية بالنسبة للحيوان تنطبق مع الحياة الخارجية. بينما الحياتان بالنسبة للإنسان متمايزتان” . جراء ذلك، فحسب، يتمكن الإنسان من إعمال عقله والتفكير والكلام مع نفسه خلافا للحيوان العاجز عن إتيان هذه الوظائف دونما عون ومساعدة فرد آخر. وإذا كانت عمليتا التفكير والكلام هما الوظيفتان الحقيقيتان المميزتان للجنس البشري بحسب فيورباخ، فذلك ليس إلا لأن الإنسان هو في الوقت نفسه أنا وآخر وبوسعه بموجب هذا المعطى أن يجعل ليس فحسب، من فردانيته كما من جنسه موضوعان للتفكير بل أيضا كينونته. وعلاوة على ذلك فإن هذه الكينونة؛ “كينونة الإنسان باعتبارها ما يميزه عن الحيوان ليست فحسب هي أساس الدين بل هي أيضا موضوعه” ؛ أما الدين فليس يعود بالنسبة لفيورباخ كما قد نخال، إلى وعي الإنسان بمحدوديته في الزمان، أو لنقل بالأحرى، وعيه بمحدودية كينونته، أكثر مما يعود إلى “وعيه بلانهائية كينونته” . توضيحا لتصوره هذا يضرب لنا فيورباخ مثال الدودة قائلا: “إنّ كائنا محدودا حقا ومحصورا، هو كائن لا يملك شعورا يمتد بعيدا، ولأسباب شتى فهو ليس بوسعه أن يكون واعيا بكائن لانهائي؛ مادام أن ما يحُدُّ الوجود هو أيضا ما يَحُدُّ الوعي. ذلك أن الدودة التي يَحْكُمُ وجودَها وحياتَها، نوعٌ من النبات المحدَّد، لا تتجاوز في معرفتها هذا النطاق الضيق؛ إنها تُمَيِّز على نحو جيِّد هذه النبتة عن تلك، لكنها لا تمضي أكثر من ذلك.” ينم هذا التعريف “الفيورباخي” عن منظور للإنسان من حيث هو كائن خلاّق ، سرعان ما ينفلتُ من الضرورة الطبيعية، جراء وعيه المسبق بلانهائية كينونته. وهنا لابأس من الإشارة إلى تقاطع فيورباخ مع روسو الذي بلور بالمناسبة نفس الفكرة في كتابه: “بحث في أصل التفاوت مابين الناس”مؤكدا على “أن ما يميز الإنسان عن باقي الحيوانات، ليس هو العقل بل الحرية. ذلك أن الطبيعة تأمر كل حيوان، فتَخضَع البهيمة. ينم الإنسان عن نفس الشعور، لكنه يدرك أنه حر في أن يرفض أو أن ينصاع؛ وهنا بالضبط أي في الوعي بكونه حرا، فحسب ،يتجلى لديه البُعدُ الروحي” . ليس هذا فحسب بل إن روسو يضيف ميزة أخرى للإنسان، وهي تلك التي تتعلق بقدرته، خلافا للحيوان، على التحسن la perfectibilité. لكن أليست هذه الخصلة راجعة إلى ما نَبَّهَنا إليه فيورباخ من قبيل قدرة الكائن الإنساني على التفكير والكلام؟ تفكير وحوار تاريخيان، جعلاه يكتشف العلوم ويُحَسِّنُ ظروف عيشه، منفلتا من إكراهات الطبيعة العديدة؛ إذ بحسبه “حيثما يوجد الوعي، توجد المقدرة على العلم. لأن العلم ليس إلا الوعي بالأجناس conscience des espèces.” ذلك أن الإنسان، بوعيه بالأجناس، إنما يعي طبيعته الخاصة التي هي موضوع تفكيره.من ثمة تنكشف لنا، بالتالي ماهيته التي تقوم بنظر فيورباخ على ثلاثة أقطاب هي: العقل والإرادة والقلب. وهذه الأقطاب هي ما يشكل الإنسانية الحقيقية، بل هي ما يصوغ النوع في الإنسان. مادام أن “في كل إنسان كامل، لا بد أن تجتمع قوة الفكر وقوة الإرادة وقوة القلب؛ على اعتبار أن قوة الفكر هي نور المعرفة بينما قوة الإرادة هي طاقة الطابع الشخصي، أما قوة القلب فهي الحب”. هكذا فما إن تلتحم هذه الأقطاب الثلاثة فيما بينها، حتى تُشَكِّل في الإنسان ما يمكننا أن نعتبره مقدسا؛ وذلك لأنها سرعان ما تغدو بمثابة القوى التي تَحْكُمُ فردانيته، بل والعناصر الأساسية التي عليها يقوم وجوده. بديهي إذن أن يكون هذا الوجود، الذي صارت تسوده قوى مطلقة وأكثر قداسة، هو الوجود عينه الذي أضحى من الصعب للإنسان الانفكاك فيه من جبروت هذه القوى أو مقاومتها حتى يوضح فيورباخ هذه الورطة مؤكدا على أن“الإنسان ليس سيد هذه القوى، مادام أنه ليس شيئا بدونها، وكل ما يَكُونُه ،ما كان له أن يَكُونَه لولاها”. على هذا النحو، فما أنْ تَسْتَقِل هذه القوى عن الإنسان، حتى تُشكِّل لوحدها كائنا مفارقا؛ كائنا مزهوا بنفسه، ويتمتع بكل تلك الخصال التي يدرك الإنسان أنه بحاجة إليها إذا ما أراد بلوغ الكمال. لذلك لايفتأ فيورباخ يُنبِّه لخطورة هذا الانفصال مُلِحا على “أن الإنسان لا يستطيع أن يسمو فوق طبيعته الواقعية؛ صحيح أن بوسعه، أن يتصور، بفضل الخيال، كائنات مختلفة بل وسامية؛ لكنه أعجز ما يكون عن أن يتجرد من نوعه كما من وجوده. أما الخصال التي يعزوها للأفراد الناتجة عن خياله، فهي تعود دوما إلى طبيعته الخاصة ولا تعكس في الحقيقة سوى صورته”. وهاهنا لا بد لنا، من الوقوف عند الخيال، وذلك ليس فحسب، لأنه المفهوم المفتاح لسبك أغوار الطرح الفيورباخي، بل أيضا لأن الدين وكذا سؤال الله والعالم الأخروي والخلود، كلها أمور تعود إلى الخيال ولا تقوم في شيء على أساس معرفي. يمكننا أن نوجز هذا الإشكال كالتالي: إن موت الإنسان من حيث هو فرد، أمر محتوم، بل وطبيعي، على اعتبار أن الجنس أو النوع هو وحده اللانهائي، بينما الفرد محكوم بالمحدودية. لكن الإنسان، جراء غريزة البقاء، هو مَنْ يرفضُ هذا اليقين، راغبا في العيش على نحو خالد .إنه إذ يرفض من ثمة القبول بالواقع والحقيقة، يجد الملاذ في اللجوء إلى الخيال: حيث بفضل هذا الأخير، تضحي رغباته وأحلامه كما لو كانت حقيقة معاشة، ليسهل عليه بالتالي أن يؤمِنَ بخلوده الفردي. هكذا يروم الإنسان، أن يؤسس لهذا الاعتقاد المُطَمْئِن، على قوام مبدأ القدرة على التحسن. لكنه، بدل أن يبقى مشتغلا وبكل جدية، من أجل التحسن الممكن، في حدود قدراته الفردية ونطاق الجنس البشري؛ بدل ذلك، قُلْتُ، يراوده، حلم الكمال المستحيل؛ كمال يتجاوز الجنس البشري. تبعا لذلك، يصل به المخيال، حد اعتقاده بالخلود والآخرة. على هذا النحو، يستنتج فيورباخ في قولة تكاد تختصر مرماه، بأن “الرغبة هي أصل الآلهة” على اعتبارمؤداه أن الرغبة في الخلود هي ما يشكل عند الإنسان أساس الاعتقاد بالله. آيته في ذلك هي أن الاعتقاد بالخلود والاعتقاد بالله قضيتان متلازمتان ومتشابهتان. فالله بحسب فيورباخ هو الفرضية المُؤسِّسة لفكرة الخلود؛ مادام أن الخلود ليس على مستوى التمثل والتصور إلا نتاج الإيمان بالله، مثلما الإيمان بالخلود ليس عمليا أو واقعيا إلا دعامة للإيمان بالله.من ثمة فالله بالنسبة لـ“فيورباخ” ليس كائنا مستقلا ومنفصلا عن الإنسان؛ إنه بالأحرى ما يعكس جوهر الإنسان وجوهر الطبيعة على حد سواء. إلى هذا الحد يبقى لنا أن نتساءل عما إذا كانت بالفعل تمثلات الإنسان لله والآخرة والموت هي ما يعيق إنجازه لمهامه الأرضية؟ وهل تغدو كرامة الإنسان مضمونة حالما نقضي على هذه التمثلات الخاطئة؟ ذلك ما سنعمل على طرقه في بحث آخر.
في مفهوم الإنسان وماهيته عند فيورباخ تخليصا للناسوت من اللاهوت
بقلم: حسن أوزال
بقلم: حسن أوزال
0 تعليقات
أكتب لتعليق