يُحكى أنّ أعرابياً فقيراً كان يعيشُ في خيمةٍ من الخيام في الصّحراء، ويقتاتُ من الكفاف الذّي تُقدّمه له الأيّام الجافّة في عالمٍ من الحرّ والعطش والبرد. ورغم ذلك، فقد كان ذلك الأعرابي سعيدًا بحياته مع زوجته التّي تعيش بقربه، وفيّةً له ومهتمّةً به. وفي يومٍ من الأيّام، وبينما كان الأعرابي جالساً أمام خيمته يتأمّل هذه السّهول الرّحبة ويسامر زوجته في هذا اللّيل الصّافي، مرّ به رجلان على ظهر حصانين، يُسمَعُ لِهَمْهَمَتِهِمَا صدًى في أرجاء الصّحراء؛ وقد تلمّس هذان الرجلان الطريق إلى خيمة الأعرابي بواسطة تلك النار التي يشعلها العرب عادةً في اللّيل ليهتدي بها الضال والجائع. رحّب الأعرابي، هو وزوجته، بالرّجلين، وفكّر في أن يقدّم لهما طعامًا. إلاّ أنه لا يملك إلاّ شاةً يتغذّى بلبنها. حدّثته زوجته بالأمر، فطلب إليها أن تهيّئ نارًا لإعداد الطّعام، فسيذبح الشاة للضّيفين اللّذين حلاّ هذه الليلة عليه. وعرف الرجلان أنه ليس لهذا ألأعرابي غير هذه الشاة. حاولا أن يقنعاهُ بعدم ذبحها، إلاّ أنه رفض طلبهما. وكان بعد ذلك أن هيّأت امرأته الطعام للضيفين، فأكلا ما لذ ّ لهما، ثمّ أمضيا عنده الليل. وفي الصّباح الباكر، ودّعاه بعد أن طلبا إليه أن يقصدهما في المدينة حيث يلتقي بهما في المسجد الجامع. ولم يعرف الأعرابي أن هذين الرجلين هما والي المدينة وقاضيها. وبعد أيّام قصد الأعرابي المدينة، وذهب إلى المسجد الجامع فوجدهما بين المُصلين يرفعان أيديهما ويصلّيان. فقال في نفسه: “أنا ألتجئ إلى إثنين يلتجئان بدورهما إلى الله، فلألتجئ إليه فهو وحده الكريم القدير”. وكان أن قفل عائدًا إلى خيمته، وأخبر امرأته بما حدث معه، فسُرّت امرأته بإيمانه وفضّلت أن يعانيا ما هما عليه من فقرٍ من أن يستعينا بأحدٍ. غير أنّ ريحا هوجاء هبّت في تلك الليلة وذهبت بالخيمة المضروبة في عمق تلك الصحراء، فقام الأعرابي وامرأته وباتا ينتظران شروق الشمس وهما يتّقيان رشاش الرمل بثيابهما. وعند الفجر حمل الأعرابي خيمته وسارت امرأته وراءه، ورحلا حتى وصلا إلى مكانٍ وجد فيه الأعرابي أمانًا له ولإمرأته. وبينما كان الأعرابي يضرب في الرّمل، إذ وجد حلْقةً أمام عينيه فأخذها بجماع يديه وراح يشدّ ويشدّ حتى خرجت من الرّمل جرّةٌ حمراء، ساعدته امرأته في إخراجها. وما إن فتحاها حتّى وجدا فيها كنزًا ثمينًا. فسُرّ الأعرابي وامرأته بذلك، وقرّرا أن يبنيا قصرًا جميلاً في ظاهر المدينة. وهكذا كان. وبين ليلةٍ وضحاها، راح يرى أهل المدينة قصراً جميلاً يرتفع في ظاهر المدينة. وكان الأعرابي قد أنفق على بناء القصر مالاً كثيرًا، فجاء آيةً من آيات فنّ البناء. وبات حديث الغادي والرائح. عَلِم الوالي أنّ قصرًا يُبنى في ظاهر المدينة، فطلب إلى الحرّاس أن يتبيّنوا له أمر باني هذا القصر. فأخبروه إن أعرابيًا جاء من الصّحراء وبنى هذا القصر، ذلك بعد أن وجد كنزًا في مكانٍ ما من الصّحراء بدّل مرارة أيامه حلاوةً وفقره غنًى. شاء والي المدينة أن يرى ذلك القصر، فجاء إليه هو والقاضي. وما إن وصلا إليه والتقيا بصاحبه حتّى عرفا فيه ذلك الأعرابي الفقير الذي أكرمهما تلك الليلة التي أمضياها في كوخه. غير أن القاضي دبّ فيه الحسد، فقال للوالي: “سأطلب إليك أن تفعل شيئًا تتبيّن فيه حسن أخلاق هذا الأعرابي من جديدٍ، إذ إنّ الغنى بعد الفقر يبدّل غالبًا من أخلاق صاحبه”. وتابَع: “ما رأيك يا سيدي الوالي أن تذهب إلى قصر الأعرابي وتلتقي به هناك، وأن تخبره أنك رأيت في ما يرى النّائم أنك وجدت نفسك تصرخ: عو عو عو. فإذا قال لك إن هذا الذي رأيت في حلمك كلب، اقتصصت منه”. رضي الوالي بما عرضه القاضي عليه، ثم ذهب إلى القصر والتقى الأعرابي. فاستقبله استقبال الكريم، ودعاه إلى تناول الطعام، فأجابه الوالي إلى ذلك. وبينما هما يتناولان الطّعام، قال الوالي للأعرابي: “لقد رأيت في ما يرى النّائم رجلاً يصرخُ: عو عو عو. وأحبّ أن تفسّر لي ذلك”. فقال الأعرابي: “أمّا “عوّ” الأولى، فمعناها أنه سبحان من رَزَق الطّير في الجوّ. وأمّا “عوّ” الثانية، فمعناها أنه سبحان من أنار الطريق أمام التّجارة في النور. وأمّا “عوّ” الثالثة فمعناها لعن الله جار السّوء”. سُرّ الوالي بتفسير الأعرابي وعرف ما كان القاضي يرمي إليه، وكان أن قرّب الوالي الأعرابي إليه وأقصى القاضي عن القضاء بين الناس.
0 تعليقات
أكتب لتعليق