الرومانسية العربية

ضع كود إعلان هنا

الأحدث

6/recent/ticker-posts

الرومانسية العربية

مِن التقليدية إلى الرومانسية، لم يكن تحديث الأدب، بحاجة أكثر إلى تدفق الزمن. لقد تقاسمت المدرستان تنفُّسَ هواء ذات الحقبة، فيما اتجهتْ رؤيتهما إلى الإقامة في زمن ثقافي آخر. وبقدر ما جسَّد الآخرُ تهديدا للهوية بالانجراف، عند التقليدية التي احتمتْ بالماضي وتدوين الذاكرة الجماعية، باعتبارها مُستقرا للنبوغ المُستعاد، بقدر ما جسد ذلك الآخر تخصيبا للذات عند الرومانسية المغربية، التي عَثرتْ في نموذجه التحديثي على مِعيار الشعرية المُستكشفة لِأغوار الذات وما يَهجع فيها مِن "حقيقة" كبتَها التقليد. نعرض لنموذجين للرومانسية المغربية:
أ ـ تصور ادريس الجاي
يَبدأ توتر الجاي برفض الرؤية إلى الشعر في إطار السلطة العريقة للوزن والقافية، ليستبدلها بمفهوم مجرد، يتمثل في "الروح الشاعرة"، التي بدونها لا يكون ثمة شعر. ولا يتعين مفهوم"الروح الشاعرة"، عند الجاي، إلا في إطار سلطة "الخيال الشعري" الذي يستمد صوره وأجواءه من عالم لا وجود له، إلا في روح الشاعر وإحساسه. هو بهذا "خلق وإبداع بالمعنى الصحيح". يقترن إذن مفهوم "الخيال الشعري"، عند الجاي، بطاقة الخلق على غير مثال سابق في الثقافة أو الطبيعة أو الواقع. فموضوع الخلق منبثق من صميم الذات وما تتمتع به من مزايا الخيال الشعري الذي قد "يتناول أبسط المواضيع وأتفه الأشياء، فيسبغ عليها حُلَّة من الجمال الرائع".
يَعرفُ الغرب، الذي أصبح يملك، منذ الرومانسية العربية، معيار الشعرية (الخيال الشعري)، أن الشرق القديم، مهد النبوة، والتجارب الإشراقية، خبر مثل هذا المفهوم، الذي كبثته قديما الشعرية العربية البيانية، ببرنامجها النظري المشدود إلى "عمود الشعر"، والموصول بأغراض دينية وثقافية، بلورها عصر التدوين، ليجعل الشعر خارج ذاته. ولعل السلطة القضائية للشعرية البيانية هي ما استعادته التقليدية لبرمجة المستقبل في الماضي، فيما انصرفت الرومانسية المغربية لاختراق نظامها بما يؤسس لشعرية الخيال، كنظام معرفي يتواشج مع مفهوم النبوة ليبقي على المستقبل في مكانه. بمفهم الخيال الشعري إذن، ينفتح المغلق في الشعرية العربية، ليقيم الشعر في الذات، خارج سلطة التعريفات الجاهزة.
ب ـ تصور عبد الكريم بن ثابت
يبدأ توتَّرُ الوعي، عند الشاعر عبد الكريم بن ثابت، برفض مبدأ التقليد، بمُستتبعاته النظرية في الرؤية إلى الفن والحياة. هنا يَتجردُ برنامج التقليدية مِن جدارته الشعرية والثقافية، مادامت الذات عنده، لا تصدر عن شرط الحرية. هذا أول نقد يستهدف متعالياتٍ، تكبثُ الشعر باسم الأمة وحاجتها إلى ترميم الذاكرة. إن الحرية في الفن، عند الشاعر، هي "مِثل الروح للجسد والنور للحياة، والشعور للبصيرة والمطر للأرض المُجدبة". لا تتوارد هذه التماثلات المرتبطة بمعجم الرومانسية الأثير، إلا لتؤكد مبدأ الحرية، الذي ينسج جوهر كل علاقة فنية ممكنة داخل اللغة وخارجها.
ينبثق الفن إذن من علاقة حرة، تستهدي فيها الذات بـ "نار الموهبة ونور الإلهام". ولعلها الخصائص "الميتافيزيقية"، التي تمنح الذات وضعا اعتباريا، يتجاوز شرطها البشري التاريخي، ليجعلها تقيم في مطلق متعال، هو مُطلق النبوة. فـ "الفنان الحر"، وفق هذه الرؤية، "رسول حَملَ رسالة سماوية بطريقة الموهبة والإلهام، لأدائها إلى بني قومه، بل إلى الإنسانية جمعاء". ها هو مفهوم "الإنسانية" يخلص التعبير الشعري من هواجسه القومية الانبعاثية، فيما يصل فن "الشعر" بالنبوة، ويجعلُ الذات موطن الحقيقة. وإذا كان الدين والفن، يختلفان من حيث الوظيفة، فإنهما يأتلفان، برأي بن ثابت، من حيث المصدر. إنهما "يقبسان من قبس عُلوي واحد، ويستضيئان من مشكاة واحدة".
يكشف تصور الرومانسية المغربية، عن برنامج نظري، يوجه، على نحو متوا شج، الممارسة الشعرية، ويؤسس لا بدالها المنعقِد حول ذات حرة، لا ترتبط بعلاقة توتر، مع برنامج التقليدية، إلا لتؤسس لمطلق شعري أخر، يجعل الحاضر يصب في المستقبل. لذلك إن مفاهيم الخيال الشعري والنبوة والحقيقة، بقدر ما حرَّرت الخطاب من متعالية التقليدية، بقدر ما اعتقلته، من جديد، ضمن مطلق آخر، يتجسد في حقيقة عُلوية مفصولة عن ذات تكابد شرطها التاريخي.

إرسال تعليق

0 تعليقات